الوفر المائي في المذهب المالكي

الكاتب : المفتي سعيد فرحان

أضيف بتاريخ : 08-08-2018


الوفر المائي في المذهب المالكي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى من دعا بدعوته واستن سنته إلى يوم الدين، وبعد:

فإن الماء سر الحياة وعصب العيش، ومصداق ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، ونظراً لأهمية الماء في حياة الإنسان كان موضع اهتمام عند فقهاء المذاهب الإسلامية كافة، وكما أن الماء مفتاح الحياة فهو مفتاح العبادة أيضاً؛ فالطهارة هي وسيلة المسلم لأداء عبادته؛ والعبادة هي المقصود الأسمى لوجود الإنسان.

وقد اعتنت المذاهب الإسلامية بالماء اعتناءً كبيراً من حيث أحكامه الشرعية؛ لأهميته في عبادة المسلم، أو من حيث توفيره؛ شعوراً منهم بأهميته، واستشعاراً للهدي النبوي في ذلك، عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يتوضأ، فقال: (لا تُسرِفْ، لا تُسرِفْ) رواه ابن ماجه.

وممن كان له السبق في هذا الميدان المذهب المالكي، في كثير من أحكام المذهب في باب المياه، ومن ذلك بيانه للماء متى ينجس، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى، ولا أدل على ذلك من كلام حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، حيث قال في كتابه [إحياء علوم الدين 1/ 129]: "وكنت أود أن يكون مذهبه [أي: الإمام الشافعي] كمذهب مالك رضي الله عنه، في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير؛ إذ الحاجة ماسة إليه، ومثار الوسواس اشتراط القلتين، ولأجله شق على الناس ذلك، وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله" انتهى كلامه.

وسأذكر فيما يلي حكمين فقهيين من أحكام الطهارة في المذهب المالكي مبيناً وجه الوفر في المياه مقارنة مع المذاهب الفقهية الأخرى؛ حيث إن المذهب المالكي انفرد في هذين الحكمين عن المذاهب الأخرى، وهما من مفردات المذهب.

أولاً: متى ينجس الماء؟

اتفقت المذاهب الثلاثة من حنفية وشافعية وحنابلة على أن الماء إذا كان كثيراً فوقعت فيه نجاسة تنجس الماء إذا تغيرت إحدى أوصافه، أما إذا لم تتغير فيبقى على طهوريته، أما الماء القليل فيتنجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، ولو لم تتغير أوصافه، وحجم الماء الكثير الذي لا ينجس عند الشافعية والحنابلة ما يقارب (190) لتراً، أما عند السادة الحنفية فهو أكثر من ذلك بأضعاف تقريباً.

وللسادة المالكية في ذلك تفصيل مختلف، فلا تفريق عندهم بين الكثير والقليل في الماء، بل عندهم ضابط آخر للحكم بنجاسة الماء، وهو تغير أحد أوصافه الثلاثة، فما دام أن الماء لم يتغير أيٌّ من أوصافه فيبقى على طهوريته حتى لو وقعت فيه نجاسة، حتى وإن كان قليلاً، فإن كان أقل من ماء الوضوء -لتراً من الماء تقريباً- فلا كراهة في استعماله، حتى مع تنجسه إذا لم تتغير أوصافه، وإن كان أقل من ذلك فمكروه مع جواز التطهر به.

وهذا القول لا يخفى ما فيه من توفير للماء، إذا قلنا إن حدّ الكثرة عند المذاهب الأخرى مائة وتسعون لتراً على أقل تقدير.

قال الإمام الحطاب في [مواهب الجليل 1/ 65]: "وإن كان نجسا فينظر إلى كثرة الماء وقلته؛ فإن كان الماء كثيراً أكثر من آنية الوضوء والغسل فهو طهور بلا كراهة، وإلا فهو مكروه؛ لأنه ماء يسير حلته نجاسة ولم تغيره".

ثانياً: استخدام الماء المستعمل في الطهارة

الماء المستعمل في باب الطهارة هو: الماء الذي أُدي به عبادة واجبة، كالوضوء للمحدث والغسل للجنب.

والماء المستعمل طاهر غير مطهر عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلا يصح التطهر به خلافاً للمذهب المالكي، فالمالكية يجوز عندهم التطهر بالماء المستعمل مع الكراهة عند وجود ماء غيره، فإن لم يوجد غيره فلا كراهة في استعماله، وتوسيع دائرة الماء الطهور –الطاهر في نفسه والمطهر لغيره-لا شك أنها تحقق وفراً مائياً.

وما نظرة السادة المالكية للمياه، إلا غيض من فيض لما في المذاهب الفقهية الأربعة من كنوز حري بنا أن نوليها اهتمامنا، فبداية ونهاية هي ديننا الذي ندين الله تعالى به