العلم والفضيلة

الكاتب : سماحة الشيخ نديم الملاح

أضيف بتاريخ : 20-03-2018


(سلسلة مقالات منتقاة من التراث)

العلم والفضيلة (*)

قد يسيطر الهوى والعاطفة على عقل المرء فيكذب أو يخيس بعهده وهو يعلم أن الصدق والوفاء بالعهد فضيلة، أو يدمن الخمر وهو يعلم أن هجرها فضيلة وأن إدمانها رذيلة: تفسد العقل، وتحرق الكبد، وتثير العداوة واقتراف الجرائم.

وقد تغلبه شهوة الطمع، فيسرق أو يرتشي لإضاعة حق، وهو يعلم أن الأمانة فضيلة، وأن الخيانة رذيلة: تعرضه للعقاب، وتضع من قدره، وتفقده ثقة الناس به.

ومن ذلك يتبين أن العلم لا يستلزم الفضيلة، ولكن الذي يوصل صاحبه إليها باختياره إنما هو حسن خلقه، وقوة إرادته، وبقدر ما يكون عليه منهما يكون أقرب إلى الفضيلة، وأحرص على التحلي بها.

ولحسن الخلق وقوة الإرادة مراتب قد يبلغ الإنسان أعلاها فتحسبه ملكاً كريماً، كما أن للهوى والشهوات مراتب قد يهوي إلى أسفلها فتحسبه ذئباً ضارياً أو شيطان رجيماً.

أما قول الله عز وجل في سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، فالمراد بالعلماء فيه هم أولئك الذين عرفوا الله بصفاته وعرفوا فضيلة خشيته وما أمر به من سائر الفضائل، فقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، وأتمروا بجميع أوامره، وكانوا في المحل الأرفع من مكارم الأخلاق وقوة الإرادة، لا أولئك الذين اقترفوا الشر ميلاً مع هواهم وشهواتهم، فكانوا بمنزلة الجُهّال لمخالفتهم مقتضى علمهم: 

يفسر ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وحديث: (أعلمكم بالله أشدكم له خشية)، وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله.

وعن مسروق: كفى بالمرء علماً أن يخشى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بنفسه، وروي أن سقراط قد وحّد بين العلم والفضيلة، وأن أرسطو رد عليه قائلاً: إن العلم لا يستلزم الفضيلة. فقد تحمل الإنسان عواطفه على ارتكاب الشر وهو يعرف الخير.

وقيل: إن خطأ سقراط في ذلك كان ناشئاً عن قياس الناس بنفسه المسيطرة على عواطفه، وأنا أرى أن العلم الذي قصد سقراط التوحيد بينه وبين الفضيلة هو العلم المؤيد بكرم الأخلاق والإرادة المسيطرة على العاطفة والشهوة، وأنه إنما عده مستلزماً للفضيلة لا اعتقاداً منه أنه منها بمنزلة العلة من المعلول بل تقديراً له ومبالغة في وصف ما له من الأثر الحميد في حمل صاحبه على التعلق بأهدابها.

ويتلخص مما ذكر أن الشرع الإسلامي لا يقول بأن العلم يستلزم الفضيلة، وأنه لا يعد العلم علماً وصاحبه عالماً إلا إذا كان صاحبه ذا خلق حسن وإرادة مسيطرة، وكان عاملاً بعلمه، وأن سقراط لم يقل بما يخالف ذلك، وإنما عد مثل هذا العلم من الفضيلة بمنزلة العلة من المعلول تقديراً له وإكباراً لحسن أثره في إدراكها.

وقد أجمع المؤرخون على أن سقراط مع سمو صفاته كان واسع الإدراك والحكمة، فلا يعقل أن يخطئ ذلك الخطأ المروي عنه، وأن يكون بعض آرائه متناقضاً أو غامضاً، وما آفة الأخبار إلا رواتها.

وبعد؛ فإن العلم نور للعاقل القوي ينير له سبيل الفضائل، ويعرف له الخير والشر ليفعل الخير، ويجتنب الشر كما في قوله تبارك اسمه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، أي دللناه على طريق الخير والشر.

وقال حكيم:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيـــه

ومن لا يعرف الشر   من الخير يقع فيه 

 

 

(*) مجلة هدي الإسلام، وزارة الأوقاف، العدد 7، 1962م.