الموضوع : حكم الديون المترتبة على الشركات المعاصرة

رقم الفتوى : 3448

التاريخ : 13-01-2019

السؤال :

ما موقف الشريعة الإسلامية من الاستثمار في الشركات التي تتاجر في المباح، والتي تتمتع بشخصية اعتبارية منفصلة ومستقلة عن الشركاء، وما موقف الشريعة تجاه الديون التي تترتب على هذه الشركات، حيث إن الشركاء لا يساْلون عن هذه الديون باعتبار أنها تقع على الشركة فلا يسددون ديون شركتهم في ظل الأحاديث التي تنص على أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

توافقت الشريعة الإسلامية مع القوانين والأعراف منذ القديم على النظر إلى شخصية الإنسان بشخصيته الطبيعية، فكل فرد يعتبر شخصاً مستقلاً تثبت له الحقوق وتجب عليه الواجبات، ولكن النظر الفقهي لم يقتصر عند هذا الحد، بل تصور نوعاً من الشخصية القابلة للتملك وثبوت الحقوق وغير مختصة بشخص معين، فاعتبر لبعض الجهات العامة شخصية مستقلة عن شخصية الأشخاص المستفيدين منها، كالوقف وبيت المال.

ثم تطور النظر إلى الشخصية الاعتبارية في العصر الحديث بعد ظهور المؤسسات والشركات المنظمة الخاصة، وظهور الحاجة الشديدة إلى جذب المدخرات وتوسيع قاعدة المشروعات وتقليل المخاطر، فظهرت نوع من العلاقات التعاقدية التي تأخذ بالاعتبار الصفة الخاصة لتلك الشركات، بحيث تكون مسؤولية الشركة في معاملاتها المالية مقتصرة على مال الشركة، ولا تسري على الذمم الخاصة بالشركاء، وسميت تلك العلاقات التعاقدية بالمسؤولية المحدودة. 

فالمسؤولية المحدودة متفرعة من نظرية الذمة في الفقه الإسلامي، والذمة وصف قائم بالإنسان، ولا مانع من انتقال هذا الوصف لغير الإنسان إذا كان صالحاً للالتزام والإلزام المالي، إذا كانت القوانين والأعراف تقر بذلك، وعليه رتب الفقهاء بعض الأحكام المتعلقة بالوقف، وبيت المال، التي تقضي باعتبار بيت المال جهة ذات كيان مستقل ومنفصل عن مال السلطان، وتجريد شخصية الوقف عن شخصية الواقف، فلا مانع من إعادة النظر في الهيكل العقدي للشركات الحديثة نتيجة لتغير الأعراف والأزمنة والأمكنة، فالفقه الإسلامي بحكم صلاحيته لكل زمان ومكان لا يقبل الجمود على شكل معين أو هياكل عقدية محددة، ويعالج كل مسالة مستجدة ويضبطها بالضوابط الأخلاقية التي تمنع وقوع الظلم والتدليس والغش والتنازع بين الناس. 

يقول الإمام القرافي رحمه الله: "إنَّ إِجراء الأحكام التي مُدْرَكُها العوائد، مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإِجماع وجهالة في الدِّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها" [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص: 218].

وفي وقتنا الحالي الأعراف التي تضبط غايات الشركات وشروطها وضوابطها، هي القوانين الخاصة التي تصدرها الدولة؛ لتنظيم أمور هذا القطاع الهام فيها، فإذا كان نظام الشركة ينص على أن الذمة المالية تتعدى لأموال الشركاء؛ فيجب عليهم وفاء ديون الشركة، ولو من أموالهم الخاصة.

فقد نصت المادة (26/أ) من قانون الشركات الأردني بخصوص مسؤولية الشركاء عن ديون الشركة على: "مع مراعاة إحكام المادة (27) من هذا القانون، يعتبر الشريك في شركة التضامن مسؤولاً بالتضامن والتكافل مع سائر شركائه عن الديون والالتزامات التي ترتبت على الشركة أثناء وجوده شريكاً فيها، ويكون ضامناً بأمواله الشخصية لتلك الديون والالتزامات، وتنتقل هذه المسؤولية والضمانة إلى ورثته بعد وفاته في حدود تركته".

بينما نجد المادة (65/ب) من القانون نفسه على: "تعتبر الذمة المالية للشركة المساهمة الخاصة مستقلة عن الذمة المالية لكل مساهم فيها، وتكون الشركة بأموالها وموجوداتها هي وحدها المسؤولة عن الديون والالتزامات المترتبة عليها، ولا يكون المساهم مسؤولاً تجاه الشركة عن تلك الديون والالتزامات إلا بمقدار مساهمته في رأسمال الشركة".

وهذه القوانين والأنظمة التي تنظم أمور الشركات بمثابة الشروط المسبقة، وقد روى الإمام البخاري –معلقاً- عن سيدنا عمر رضي الله عنه قال: "إنَّ مَقَاطِعَ الحُقُوقِ عِندَ الشُّرُوطِ وَلَكَ ما شَرَطتَ".

فإذا كانت الشركة قد سُجلت كشركة تضامن؛ فإن الديون المترتبة على الشركاء تتعدى مال الشركة لأموالهم الخاصة، أما إذا كانت الشركة مساهمة، فإن الديون تقتصر على أموال الشركة ولا تتعدى لذمة الشركاء، فلا يجب عليهم شرعاً سداد ديون الشركة في هذه الحالة. والله تعالى أعلم.