أهمية الأمن الفكري

الكاتب : سماحة الشيخ عبد الكريم الخصاونة

أضيف بتاريخ : 09-01-2024


أهمية الأمن الفكري ودوره في الحفاظ على المجتمع

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:

تحرص كل أمة على سلامة فكر أبنائها وحمايتهم من الشبهات والانحرافات وحفظهم من التطرف والإرهاب، والغلو والتشدد والتكفير، وهذه حُجبٌ للعقل وخارجة عن الضوابط البشرية ديناً وفكراً وخلقاً.

والفكر هو التصورات والأحكام التي نتاج العقل الذي هو مناط التكليف وقد جعله الله تعالى سبباً لتكريم الإنسان فقال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء: 70]، قال المفسرون: "كرم الله عز وجل وشرف ذرية بني آدم بالعقل والعلم".

لذلك كان الحفاظ على العقل من المؤثرات التي تحرفه عن سبيل الهداية والرشاد من أوجب الواجبات ورأس الضرورات التي لا تقوم الحياة إلا بها، فالحفاظ على الأمن الفكري هو حفاظ على كرامة الإنسان التي كرم الله تعالى بها الإنسان لكل فرد من افراد البشرية، وهي الأساس الذي تقوم عليها العلاقات بين بني آدم، وهذه تحتاج إلى حماية وصيانة وأمن، فالحفاظ على الأمن الفكري هو حفاظ على الضرورات الخمس التي أمر الإسلام بصيانتها وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فالفكر الصحيح يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهدي إلى الصراط المستقيم كما قال الله عز وجل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].

وإن كان للأمن الفكري أهمية كبرى وأثر عظيم على الأمن الاجتماعي فيما مضى، فإن أثره في هذه الأيام أشد وأعظم، بل قد يكون خطر الغزو الفكري أقوى من خطر الغزو العسكري، لأنه يستهدف بنية المجتمع الثقافية بدون أن يشعر به الأفراد، أو يدركوا خطره، وبالتالي فإن مقاومته تحتاج إلى جهود مضاعفة، ويقظة كبيرة من العلماء والمفكرين والتربويين وغيرهم،

 وقد تمخض الزمان عن وقائع وأحداث لا عهد للسابقين بها، خاصة في ظل تطور وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على العالم بشكل هائل وسريع حتى أصبح العالم الآن كقرية صغيرة، فلا بد من الاهتمام بالأمن الفكري واتخاذ جميع الوسائل والطرق لتحصين أبنائنا من أمراض العصر الجديدة التي تستهدف سلامة الفكر، وتنخر في ثوابت المعتقدات، وتهدد سلامة الإيمان، يقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، لذلك كانت المحافظة على الأمن الفكري من أهم الأولويات التي ينبغي الانتباه لها، من خلال اشتباك العلماء مع واقعهم، ومعالجة القضايا المستجدة على الساحة وإيجاد الحلول الشاملة لتحصين المجتمع من التأثر بالأفكار الدخيلة.

وقد وضع الإسلام مجموعة من التدابير لحماية الأمن الفكري في المجتمع، منها: 

أولاً: أن يكون القرآن الكريم هو منهج الحياة، وطريق الهداية والرشاد، يقول الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

أنزل الله تعالى القرآن الكريم كتاب هداية إلى الصراط المستقيم، ونور يهدي به الله تعالى من اتبع رضوانه سبل السلام ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وحصن يبقي الفكر آمناً مستقراً قادراً على دفع الشبهات لا بد من تحصين الفكر من ظلمات الجاهلية، قائم على قواعد ثابتة وأسس متينة من الثوابت العقلية والشرعية التي لا تتطرق لها الشبهات ولا تزعزعها التّرهات، بل هو فكر يقيني يستمد إيمانه من الآيات المُحكمات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو لا يقبل التشكيك والتضليل مجبول على الحق وكره الباطل، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].

ثانياً: تعزيز قيم الأخوة الإنسانية في المجتمع والعلاقات القائمة على أساس الاحترام المتبادل بين الناس.

إن الأمن الفكري في المجتمع بناء يبدأ من قاعده الأولى وهي المنطلقات الفكرية التي يتعامل بها الإنسان مع أخيه الإنسان، فإما أن تكون قائمة على أساس من العداء والإقصاء، وإما أن تكون قائمة على أساس التعارف والتآلف، وقد وجّه الله تعالى خطابه للناس كافة باعتبارهم جميعاً عباده، ونظّم علاقة المسلمين بغيرهم لتكون قائمة على أساس الأخوة العدالة في المعاملة والقيم الإنسانية القائمة على الأخوة والمودة والمحبة دون نظر إلى دينهم أو عرقهم أو لونهم، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]، وتتجلى هذه العلاقة القائمة على المودة والأخوة الإنسانية من خلال وثيقة المدينة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، التي شكّلت أساساً فكرياً متيناً للحفاظ على الأمن المجتمعي حيث اشتملت بنودها على إقامة أمة يجتمع أفرادها تحت مظلة واحدة، وينظر فيها المسلمون إلى غيرهم نظرة احتواء وتعايش، وهو ما شكّل أساساً قوياً لبناء المجتمع المدني.  

ثالثاً: أمرنا الله سبحانه وتعالى بالرجوع إلى المصادر الموثوقة عند تبني الأفكار.

 فقد اهتم الإسلام بعناية التفكير من الناحية المادية أولاً من خلال تحريمه للمؤثرات العقلية المادية كالمواد المُسكرة والمخدرة التي تؤدي إلى اختلال الموازين وانحراف البوصلة وجهتها الصحيحة ومن هذه المؤثرات العقلية كذلك التي يجب الحذر عند استخدامها وسائل التكنولوجيا الحديثة والمؤثرات الرقمية التي عمّ انتشارها وظهر خطرها بسبب استخدامها الاستخدام الخاطئ، ووسائل التكنولوجيا الحديثة، التي وجدت أصلاً لتحقيق راحة الإنسان وتيسير أمور حياته، والارتقاء به حضارياً وثقافياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) سنن الترمذي، ولكن الاستخدام الخاطئ لهذه الوسائل، وعدم مراقبة الأبناء وتوجيههم لاستخدامها بالطريقة المثلى، يؤدي إلى الإدمان على استخدامها، وتؤثر سلباً على سلوك الأبناء من الناحية العقلية والنفسية، كما تؤثر على سلوكهم في مجتمعاتهم وتعزلهم عن واقع الحياة وتحدياتها الحقيقية إلى عالم افتراضي يوجه الأبناء دون وعي أو إدراك.

كما أمرنا الله عز وجل بالتحري في أخذ المعلومة الصحيحة من مصدرها الموثوق وعدم الالتفات إلى الشائعات الكاذبة، أو المصادر المشبوهة، وبيّن سبحانه وتعالى إلى ضرورة الرجوع إلى العلماء عند بناء تصور أو تبني حكم من الأحكام، فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، وبالتالي فإن المؤسسات الشرعية العلمية التي تحافظ على أمن المجتمع، والمناهج التربوية التي تعزز ثقافة الأمن الاجتماعي وتنسجم مع مقاصد الشريعة في تعارف الناس وتآلفهم ينبغي أن تكون هي المصدر الأصيل والحصن المنيع للأمن الفكري في المجتمع.

وأما إهمال الأمن الفكري وعدم الاهتمام به سيؤدي إلى وقوع أبنائنا في شبهات المبطلين ودسائس الحاقدين والمشككين، وخروج إرهابيين وتكفيريين ومتطرفين، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل"، أخرجه الدارمي في السنن بإسناد صحيح.

رابعاً: تبني خطاب إسلامي يؤمن بحرية التفكير والحوار المنضبط للوصول إلى قناعات فكرية راسخة، فالإسلام هو دين اللين والسماحة والرحمة، وهو أحد أهم الوسائل لنشر الأمن الفكري في المجتمع، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، لذلك أمرنا الله عز وجل أن نحاور المخالفين  بالحسنى، وأمر سبحانه المسلمين بحوار المخالفين بالحُسنى، فلا إجبار ولا إكراه في الإسلام، كما أنه لم يجعل الحرية مطلقة ولكنّه نظمها بضوابط تحفظها من الانفلات والتعدي على حقوق الآخرين وكرامتهم وبالتالي استباحة دمائهم وأموالهم وتعيث في الأرض فساداً فيتحول المجتمع إلى فوضى بلا رقيب ولا حسيب فتهلك الحرث والنسل باسم الحرية الزائفة، وإنما وضع الإسلام 

الضوابط للخطاب الإسلامي بأن يكون خطاباً حكيماً ينسجم مع واقع الحياة، ويقدم الحلول، ويصل إلى نتائج بناءة، بعيداً عن الخطاب الإقصائي، والاحتقان في المعاملة، يقول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، فالخطاب الإسلامي يتميز بأنه يحاور الناس بالحُسنى وبما يضمن عدم الاعتداء على حقوق الآخرين وحرياتهم في الاعتقاد.

خامساً: الأمن الفكري هو وعاء السلوك الحسن والأخلاق الحميدة: 

فالأمن الفكري يحفظ الإنسانية من الانحراف وهو وعاء الصفات الحميدة والأخلاق العظيمة الجديرة بالثناء والمدح كالصدق والأمانة والعدالة والمساواة، ويدعو إلى الرحمة والحلم وسعة الصدق والتسامح، لذلك حثّ الإسلام في آيات كثيرة على حفظ الأمن الفكري وجعله أمراً واجباً وجزأً مهماً من ديننا، وعقيدتنا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا تحقق الأمن الفكري في الأمة فستصبح الأمة قوية في عقيدتها وقيمها وأخلاقها تؤثر في غيرها ولا تتأثر بأية أفكار دخيلة سواء أكان في العسر أم اليسر في الضعف أم في القوة.

سادساً: حثّ الإسلام على تطوير تفكير الإنسان وإثراء معلوماته بكل ما هو نافع ومفيد، حتى يخرج من ظلام الجهل إلى أنوار العلم والفهم، فكان أول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة في قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1]، كما أقسم سبحانه بأدوات العلم والكتابة فقال سبحانه وتعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، وهذا يدل على اهتمام الإسلام بالقراءة والكتابة، كما دعا الإنسان أن يخرج عن إطار الموروث الجاهلي عن الآباء والأجداد، إلى حرية الاختيار والتفكير، والاستدلال على عظمة الخالق من خلال التأمل في الخلق والتفكر في إبداع خلقه، فقال سبحانه وتعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية: 17]، وقال: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101]، وقال سبحانه: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد: 17]، وغيرها العشرات من الآيات التي تحث الإنسان على التفكر والتعقل والتدبر في آيات الكون، مما يشكل حصانة فكرية للعقول.

ونحن اليوم بحاجة إلى نشر روح المحبة والأخوة بين الناس، بناء على منطلقات ربانية راسخة، وجهد دؤوب مستمر لتحصين المجتمع من الأفكار الظلامية الهدامة، وتعزيز السلم العالمي ونشر رسالة الإسلام الصحيحة التي تدعو إلى محبة الآخرين والتعاون بين الناس جميعاً.

والحمد لله رب العالمين