اتفاق الأشاعرة على عقيدة واحدة

الكاتب : المفتي الدكتور جاد الله بسام

أضيف بتاريخ : 09-08-2023


اتفاق الأشاعرة على عقيدة واحدة

وتنبيهٌ على معنى كلام الإمامِ أبي المظفر السمعانيّ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لقد وقع في أذهان كثير من الناس، وبعض الباحثين والكاتبين ممن لم يتمرّس في ميدان علوم الشرع الشريف وتاريخ علمائه ومذاهبه، ولم يدرك ارتباط أدلة المعقول بدلائل المنقول، لبس خطيرٌ وإشكال كبيرٌ، وهو قولهم: إنّ غير أهل الحديث من علماء الشرع مخالفون لأهل الحديث، ويزداد الإشكال خطورة عندما يرمي أصحاب هذا اللبس الفقهاءَ والمتكلمين بمخالفة أهل الحديث وكأنهم طائفة ليسوا من أهل الشرع، لم تعلم من كتاب الله تعالى وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون هادياً لها في مجال الفقه والعقيدة وغيرها من المجالات.

وإنّما وصفنا هذا الإشكال بالخطورة لأمر قلّما يتنبه له أصحاب هذا اللّبس ومن يتابعونهم ويتأثّرون بهم؛ وذلك أنّ في طيات الحكم بمخالفة الكتاب والسنة على علماء الاعتقاد من المتكلمين الأشاعرة والماتريدية، وعلماء الفقه من المذاهب الأربعة المشهورة حكماً على تاريخ الإسلام وعلمائه بمخالفة الكتاب والسنة، ويا لها من عظيمة من العظائم! وظلّ هذا التصوّر يحيك في نفوس أصحابه حتى أنشأ لهم تصورات أخرى هي من جملة الأباطيل والأوهام.

فمن ذلك: تغيير مفهوم أهل السنة والجماعة حتى ما عاد يتحقق إلا في طائفة من الناس هم أكثر ضآلة وقلة من أن يحملوا هذا الاسم العظيم بما فيه من المعارف والاتساع العلمي والقوة العملية ونصاعة التاريخ وثبات المناهج والمبادئ ووحدة الصف.

ومن ذلك: قطع صلة خلف الأمة في حاضرها بسلفها من العلماء من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، ودعوى أن المتكلمين والفقهاء يتبعون فلسفات غريبة عن نصوص الكتاب والسنة.

ومن ذلك: إلحاق أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية بطوائف الابتداع والضلال على حدّ زعم أصحاب هذا اللبس، حتى صار أمر هؤلاء المسيئين في تصورهم -وبئس ما صار إليه أمرهم- ما بين مكفّر لمتكلمي أهل السنة ومبدّع.

ومن ذلك أمور كثيرة جداً، تتدرّج في خطورتها حتّى تصلَ إلى إلغاءِ علوم شرعية عقلية ونقلية، والقول بعدم مشروعيتها أو عدم جدواها، فقد قرأنا من ينكر علم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم المنطق، قائلاً بتحريمها، ويزعمون في ذلك الحرمة القطعية، ولا يرضون أن يكون ذلك منهم مجرد وجهة نظر أو رأي يقال.

ولا ينتهي أمر هذا اللبس بذلك، بل يصل الغلو إلى درجة سفك الدماء واستحلال القتل، واستباحة أموال الناس وأعراضهم بالباطل، وبدعوى أن هؤلاء العلماء ومن وافقهم وهم أكثر الأمة مبتدعة أو ضلال أو كفرة، نعوذ بالله من هذا الهذيان.

ومن جملة ما يمكن أن يبين في هذا الشأن أنّ علماء الأشاعرة والماتريدية وهم متكلمو أهل السنة موافقون لجماهير الأمة من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وأهل التحقيق من العلماء الذين عكفوا على شرح الحديث وتفسير القرآن الكريم.

وآية ذلك أنك تجد الواحد من محققي الأشاعرة مثلاً جامعاً للعلوم يعترف له القاصي والداني بالصدراة العلمية، ولم يكونوا مخالفين للحديث، بل كانوا معدودين من أهل الحديث على التحقيق، فهاكم الحافظ المحدث ابن فورك من رؤوس المحدثين الأشاعرة، ومثله الحافظ البيهقي، والحافظ ابن عساكر الدمشقي، والإمام شيخ السنة البغوي، والإمام محي الدين النووي، وإمام المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم كثير لا يخفون على المتتبع، ولا يمكن حصرهم عند التقصي.

ومن الدلائل على أن هؤلاء العلماء ممثلون حقيقيون لأهل السنة والجماعة أنهم متفقون على عقائد واحدة مع بُعْدِ ما بين كثير منهم من مكان أو زمان، وذلك لأنهم متابعون حقيقة لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما قرره كثير من العلماء، فهذا الإمام الحافظ تاج الدين السبكي يقول في [معيد النعم ومبيد النقم/ ص75]: "وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة -ولله الحمد- في العقائد يدٌ واحدة كلّهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية؛ لحقوا بأهل الاعتزال، ورَعاع من الحنابلة؛ لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية؛ فلم نر مالكيًّا إلا أشعريًّا عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة" اهـ.

وكذلك نجد علامة من علماء الحنابلة يقرر الأمر عينه، وينص على أنّ متكلمي الأشاعرة والماتريدية موافقون لأهل الحديث، فهذا العلامة السفاريني يقول في [لوامع الأنوار البهية 1/ 73]: "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي، وأما فرق الضلال فكثيرة جدًّا" اهـ.

ويجب التنبه إلى أن كثيراً من الناس يطلق لقب أهل الحديث على كل من اشتغل برواية الحديث وإن كانت عقيدته مخالفة لأهل السنة والجماعة، وهذا أمر لا يجوز، فقد اشتهر في تاريخ الفرق الإسلامية من ينتسب إلى أهل الحديث يريد ستر عورة بدعته، وهو في الحقيقة معدود من المشبهة أو المجسمة أو غير ذلك من الفرق الخارجة عن طريق أهل السنة والجماعة، وأما أهل الحديث المحققون فهم الموافقون لأهل السنة والجماعة الذين هم على الحقيقة من الأشاعرة والماتريدية أو موافقون لهم في الاعتقاد، فهؤلاء جميعاً هم جماهير الأمة الإسلامية.

وقد اغترّ كثير من أصحاب هذه الشبهة بنقولٍ عن بعض العلماء تذكر أهل الحديث وأنهم هم أهل السنة الجماعة، فذهب ظنه إلى أن المراد بأهل الحديث عند هؤلاء العلماء ما في أذهانهم من الموافقين للوهابية ومن تابعهم من المعاصرين، أو من تابع ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية حصراً، ومن هذه النصوص التي أسيء فهمها ما نقله بعضهم عن الإمام أبي المظفر السمعاني رحمه الله تعالى، حيث قال فيما نقله عنه قوام السنة في كتاب [الحجة في بيان المحجة 2/ 224]: "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحقّ أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحد ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}..."، ثم قال أبو المظفر: "وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً بل يرتقون إلى التكفير... أوما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبو علي الجبائي ابنه أبا هاشم...".

فهذا النصّ بطوله لم يذكر الأشاعرة ولم يشرْ إليهم، وإنما يشير إلى المعتزلة ومن اضطربت آراؤهم وزلت أفكارهم حتى كثر خلافهم وحصل اقتتالهم، فيأتي صاحب الوهم الذي التبست عليه الأمور فيجعل كلام أبي المظفر السمعاني صاحب الكتاب الشهير [القواطع في الأصول] في حقّ الأشاعرة، ويجعل وهمه حاكماً على السمعاني، ويوقع قارئيه في سلسلة من الأوهام لا حصر لها، مع أن السمعاني معروف مشهور كان حنفي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، وصار رأساً فيه، وبرع في العلوم، ولم يعلم أنه يخالف مذهب الأشاعرة في مسائل الكلام والأصول، بل المعلوم أنه موافق لهم فيها، وكيف يخالفهم وهم خلاصة أهل السنة والجماعة، وأبرع من قرر العقائد واستدل عليها ودفع عنها الشبهات المضلّة.

وختاماً؛ فإنّ أهمّ ما أردناه في تضاعيف هذا الكلام أنْ ننبّه أنّ كثيراً من الناس قد تزلّ بهم القدم في فهم كلام العلماء، ويتمحّلون في فهم كلامهم بما لا يقع فيه طلبة العلم النابهون، ويغلب عليهم التعلق بالألفاظ دون درك المعاني، وينتقلون إلى مزيدٍ من الأوهام فيظنون أنّ الأشاعرة يكفر بعضهم بعضاً، اعتماداً على سوء فهمٍ لمثل هذه النصوص. والله الموفق للفهم والهادي للصواب. والحمد لله رب العالمين.