الحج ترك للدنيا وإقبال على الآخرة

الكاتب : عطوفة الأمين العام الدكتور أحمد الحسنات

أضيف بتاريخ : 22-06-2023


الحج ترك للدنيا وإقبال على الآخرة

أول ما يبدأ به الحاج بعد نية الدخول في النسك هو التجرد عن لباس الدنيا ومتاعها من زينة وطيب ومعاشرة النساء، حتى يتشبه بالملائكة المقربين الذين لا يشتهون ولا يتزينون ولربهم عابدون، وحينما يتخلى الإنسان عن ملابس الدنيا المعتادة، ينبغي أن يستحضر في قلبه أنه يتخلى عن ذنوبه ومعاصيه، فكما يخلع ثيابه ويتجرد عن لباسه يخلع معاصيه ويتجرد عن ذنوبه، ويلجأ إلى ربه الغفور الرحيم.

فيترك الحاج هذه الأمور حتى لا يكون قلبه معلقا بالدنيا، في هذه الشعيرة -التي يكون الناس فيها سواسية كأسنان المشط لا فرق بين أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر- يُقبل الحاج على ربه، ملبيا نداء الحق {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، قائلاً (لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والملكَ، لا شريكَ لكَ) مستغيثاً برحمة الله طامعاً في كرمه تعالى ومَنّه وفضله سائلاً الجنة مستعيذاً من النار قائما وقاعدا وراكبا وماشيا ومضطجعا وجنبا وحائضا، متبرئاً من حوله وقوته وداخلاً في حَول الله وقوته.

فليس الحج حضور مشاهد وزيارة أماكن من غير أن يكون له معنى، فعندما يتجرد الحاج عن ملابسه يعلم أن الله تعالى لا ينظر إلى مجرد ظاهره، بل محط نظر الله تعالى الباطن والقلب (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) صحيح مسلم.

فتجرد القلب عن الالتفات إلى الحياة الدنيا هو المطلوب، كيف لا؟ وهو محط دعاء سيدنا إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، فالقلوب معلقة بمكة، ففي رحلة الحج يترك الحاج أولاده وزوجاته وأهله، ويهرع إلى مكة، ويهوي فؤاده إليها مستجيراً بالكعبة، فاراً من أعماله وذنوبه وما اقترفت يداه، مقبلاً على الله، منتظراً وعده، يوم يغتاظ إبليس من كثرة ما يغفر الله للناس من خطايا في يوم عرفات.

فإذا وصل مكة استقبلته بلقاء العاشق المحب، وأول ما يقع من نظره عليها يدعو الله: "اللهمَّ زدْ هذا البيتَ تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً، وزدْ منْ شرّفهُ وعظَّمهُ ممَّنْ حجّهُ واعتمرهُ تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبرّاً، اللهمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ فحيِّنا ربنا بالسلامِ".

ثم يطوف بها طواف القدوم وهو أشبه بعناق الأم لأولادها بعد طول غياب، يُقَبِّل حجرها الأسود ويستلم أركانها كما يمسك الغائب وجه أمه ويتمعن فيه شوقا وحبا وشغفا بأن تقر عينه برؤيتها، ويدعو في هذا الطواف بدعاء الآخرة وأمنها والفرار من عذابها فيقول: اللهمَّ إنَّ هذا البيتَ بيتكَ والحرم حرمكَ والأمن أمنكَ وهذا مقامُ العائذِ بكَ منَ النارِ.

ثم يذهب الناس للسعي بقلوب مخلصة متوكلة على الله، ويجري على مسمع آذانهم قول سيدتنا هاجر: إذا لن يضيعنا الله. 

يسعون وهم يدعون ربهم بالمغفرة: ربِّ اغفرْ وارحمْ واعفُ عما تعلمُ إنكَ أنتَ الأعزُّ الأكرمُ، ويكررون قول الحق بتجرد عن الدنيا وطمعا فيما عند الله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

ثم يقبل الناس على صعيد عرفات يعرفهم ويعرفونه، كيف لا؟ فعرفة لمن عرفه، أرض الرحمات والتجليات والتعلق بالآخرة ولا مجال للدنيا في عرفات، فأنت في يوم المشهد العظيم، وأنت في يوم المغفرة العظيم لا شأن لك ولا حال لك إلا حال العائذ بالله تعالى من كل ذنب، الفار من غضب الله تعالى المستظل بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، فهو أشبه بيوم المحشر {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، نعم إلا من أتى الله بقلب متجرد عن الدنيا مقبل على الآخرة يرجو الرحمة من الله ولا يوجد في قلبه إلا الله. والحمد لله رب العالمين