الدنيا بين المدح والذم

الكاتب : المفتي الدكتور محمد بني طه

أضيف بتاريخ : 20-12-2016


 

الدنيا بين المدح والذم

مع دخولنا سنة هجرية جديدة -نسأل الله تعالى أن تكون مملوءة بالخير والأمل والتفاؤل بحياة سعيدة للجميع- نكون قد طوينا صفحة وبدأنا صفحة من حياتنا الدنيا التي هي كل ما قبل الموت، كما عرفها الإمام الغزالي رحمه الله، حيث سميت دنيا من الدنو، وهو القرب، لأنها أقرب لنا من الآخرة، وقيل من الدناءة إذا ما قورنت بالآخرة من حيث المتعة واللذة وصفاء العيش.

لكن الدنيا نفيسة من نفاسة أعمارنا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

حياتك أنفاس تعد فكلما مضى      نفس منها نقصت بها جزءاً

وقد أرشدنا الشرع الحنيف إلى التفاؤل بها واستغلالها بما يرضي الله تعالى، حيث ورد في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ) مسند أحمد.

لكن الكثير من الوعاظ والخطباء يتفننون بعبارات الذم والتنفير من الحياة الدنيا مجتزئين النصوص الشرعية التي تذمها، ويسوقون على ذلك كثيرًا من الآثار والحكايات الموضوعة، دون أن يذكروا الجانب الآخر من النصوص الدالة على أهمية الحياة ونفاستها، من حيث إنها مزرعة الآخرة والطريق الموصلة لها، كما قال محمد بن حامد الخوارزمي:

تذم دنيا إن تأملتها      وجدت منها ثمن الجنة

فينتج عن ذلك أن يبغض المستمع الحياة الدنيا ويزهد فيها، فيفقد الأمل والتفاؤل ويصبح خاملاً مبغضاً للحياة لا يضيف شيئاً لنفسه فضلاً عن مجتمعه، وكل ظنه أنه بهذا يتقرب إلى الله، كما قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "واعلم أن خلقاً كثيراً سمعوا ذم الدنيا ولم يفهموا المذموم، وظنوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع من المطاعم والمشارب، فأعرضوا عما يصلحهم منها فتجففوا فهلكوا، ولقد وضع الله جل وعلا في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها ظناً منهم أن هذا هو المراد، وجهلاً بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 2/547].

فهل الدنيا في الشرع مذمومة أم ممدوحة؟ والإجابة على هذا السؤال تكون ببيان ما يلي:

أولاً:

هناك نصوص شرعية عديدة من القرآن والسنة الشريفة يظهر فيها ذم الدنيا، ومنها:

قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب) البقرة / 212.

قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون) الأنعام / 32.

قوله تعالى: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون) يونس / 7.

قوله تعالى: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع) الرعد / 26.

قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) الكهف / 45.

قوله تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون) العنكبوت / 64.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور) لقمان / 33.

قوله تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار) غافر / 39.

قوله تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم) محمد / 36.

قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور) الحديد / 20.

ومن الأحاديث النبوية الشريفة:

قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) صحيح مسلم، واستدل من هذا الحديث على ذم الدنيا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فَاتَّقُوا الدُّنْيَا)، وهو للتحذير منها وأنها فتنة قد توقع صاحبها في الهلاك.

قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ). رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ) صحيح مسلم.

ثانياً:

هناك نصوص شرعية عديدة من القرآن والسنة الشريفة يظهر فيها مدح الدنيا، ومنها:

قول الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) الأعراف / 32.

قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين) القصص / 77.

قول الله تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين) النحل / 30.

قول الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين) العنكبوت / 27.

قول الله تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب) الزمر / 10.

قول الله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين) النحل / 122.

ومن الأحاديث الشريفة:

قول النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) صحيح مسلم. وأخذ من قوله عليه السلام: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) إن الدنيا وجدت لتكون مزرعة للآخرة ومضماراً للسباق، فمن أحسن فيها فاز وربح، ومن أساء خاب وخسر.

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ) مسند أحمد (4/188).

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْعَمَلَ وَلَا يَرُدُّ الرَّجُلَ فَيَسْتَعْتِبُ) [المعجم الأوسط 8 / 313].

ثالثاً:

عند إنعام النظر في النصوص التي يظهر منها ذم الدنيا والنصوص التي يظهر منها مدح الدنيا، نجد أن الدنيا غير مذمومة بشكل مطلق وغير ممدوحة بشكل مطلق، فهي مذمومة إذا اغترّ الإنسان ورضي بها، واعتاض بها عن الآخرة فصارت همه ومنتهى أمله، ونسي الآخرة وغفل عنها، أما إذا اتخذها الإنسان طريقاً للآخرة فتمتع بها بما أحل الله ولم يغفل عن الآخرة، فتكون ممدوحة، إذ هي دار التكليف والعمل.

قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: (إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهواً ولا لعباً.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومطلب نجح لمن سالم، فيها مساجد الله عز وجل، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، فيها اكتسبوا الرحمة، وربحوا فيها العافية، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببنيها، ونعت نفسها وأهلها، ذمها قوم غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا، ووعظتهم فانتهوا".

ومما يدلّ على مدح الدنيا أنه صلى الله عليه وسلم في هجرته والتي نؤرخ سني حياتنا بها، علمنا درساً عملياً في الاحتفاء بالحياة والتفاؤل بها، حيث ابتدأ المسلمون معه صلى الله عليه وسلم حياتهم، فكما قاموا ببناء المسجد افتتحوا سوقاً للتجارة ووضعوا وثيقة ودستوراً لينظم علاقاتهم مع غيرهم في شتى مناحي الحياة، متجاوزين بذلك ألم مفارقة الأهل والبلد والمال، فلم يقنطوا أو يستسلموا للظلم الواقع عليهم وقلة الإمكانيات المادية.

 فجدير بنا كمسلمين برغم الآلام والظروف الصعبة التي حلت بنا، أن نتجاوز جميع المحن ونتمرد على الظروف، فنقبل على الحياة بتفاؤل وأمل ونعمل بجد ونشاط، فتتحقق لنا الريادة والسيادة كما تحققت للرعيل الأول، كما قال الشاعر:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم      إن التشبه بالكرام فلاح