الإسراء والمعراج

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 22-03-2020


الإسراء والمعراج

سماحة المفتي العام الشيخ عبدالكريم الخصاونة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة الشريفة من أهل مكة معاناة شديدة ومعاملة قاسية، ثم وقعت بعض المواجهات المؤلمة مع زعمائها، وفي السنة العاشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم ماتت زوجته خديجة، أخلص وأوفى وأعقل، وأعز زوجة لزوجها في العالم كلّه، ثم توفي عمّه أبو طالب، القلعة الصامدة والشامخة أمام هجمات الأعداء التي كانت تستهدف محمداً صلى الله عليه وسلم، وسُمّي هذا العام بعام الحزن.

فذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليدعو قبيلتي هوازن وثقيف إلى عبادة الله الواحد القهار ونبذ عبادة الشرك والأوثان، لكنّهم أبوا أن يستمعوا إليه، وردّوه ردّاً قبيحاً وأغروا به السّفهاء والصبيان وآذوه في جسده الطاهر، وأدموا قدميه الشريفتين.

وكان هذا أشد يوم مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته كما روى البخاري ومسلم، عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟، قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت"،

وبعدها التجأ صلى الله عليه وسلم إلى حائط لبني المغيرة، فرفع يديه ودعا ربّه واشتكى إليه ما لا يخفى عليه دعاء فيه حزن وألم، فيه قوة وعزيمة ثابتة فيه المحافظة على الدعوة في سبيل الله: «اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ، فَلَا أُبَالِي، إِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ».

ولكن العناية الإلهية والرعاية الربانية كانت تحوطه صلى الله عليه وسلم، فأكرمه ربّه عزّ وجل برحلتيّ الإسراء والمعراج، وهذا أعظم تشريف، وأجلّ تكريم كرّم الله تعالى به إنساناً.

وجُمع له الأنبياء والمرسلون، وأمّهم في بيت المقدس، ليخبره ربّه بأنه خير خلق الله في أرضه، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء: 1.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: "إنّ المراد بالمسجد الأقصى بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمّهم في محلتهم ودارهم، فدلّ على أنه الإمام المعظم والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثم عُرج به إلى السماوات العُلا، ووصل إلى سدرة المنتهى، منزلة عظيمة ودرجة عالية رفيعة لم يصل إليها أحد من خلقه، فالقدس الشريف لها مكانة عظيمة عند المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومجمع الأنبياء ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه الشريف، ومقر الفئة المؤمنة إلى يوم القيامة، وهي الثغر الأول والمهم الذي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليه، عن ميمونة، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس فقال: «ائتوه فصلوا فيه» وكانت البلاد إذ ذاك حربا، «فإن لم تأتوه وتصلوا فيه، فابعثوا بزيت يسرج في قناديله» رواه أبو داود.

ومن هنا ندرك أن السرّ في اختيار بيت المقدس مسرىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكمن في أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لقومه خاصة، وإنما بعث للنّاس كافة.

وفي السماوات العُلا والمقام الأسنى قُدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية عظيمة وهي الصلاة، معراج أرواح المؤمنين، ومحط راحتهم واستقرارهم، يُهرع المسلم إليها إذا ألمّ به شيء أو حزبه أمر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة: 153، والصلاة هي أفضل العبادات، وعماد الدين، ومعراج المسلمين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فمن حافظ عليها فهو لما بعدها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

لهذه المكانة السامية الدينية والتاريخية لبيت المقدس جعل المسلمون يبذلون أموالهم وأرواحهم ليدرؤوا عن مقدساتهم أي خطر، ويحافظون عليها كجزء من عقيدهم ودينهم، ومن أجلها بذل الصحابة الكرام الغالي والنفيس، وقدموا المُهج والأرواح، في سبيل الدفاع عنها، وتحركت لأجلها الجيوش للدفاع عنها والذبّ عن حياضها، والوقوف صفاً واحداً في وجوه المعتدين، واستمرت مسيرة الدفاع عن المقدسات الدينية جيلاً بعد جيل حتى حمل لواءها آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم الكرام هم أولى الناس بحماية المقدسات الدين ورعايتها والوصاية عليها حملوا على عاتقهم مهمة الحفاظ عن المسجد الأقصى ورعايته وصيانته، بذلوا أرواحهم ودماءهم وأموالهم في سبيل الله دفاعاً عن القدس الشريف، وعن مسجدها المبارك، مهوى القلوب ودرّة العيون، ومحط الأنظار، فما من اجتماع عالمي أو مؤتمر دولي أو تجمع إنساني إلا وينادي جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله تعالى ورعاه بالحق المقدس المغتصب لفلسطين وأهل فلسطين، والوقوف بوجه من يحاول النيل من هويته الثقافية والتاريخية، ليبقى المسجد الأقصى وقفاً على المسلمين.

والهاشميون ولله الحمد يتوارثون هذه المهمة الشريفة وتجري أيديهم سخية لخدمة الأقصى المبارك، ونحن حين نستذكر حادثة الإسراء والمعراج فإننا نجدد بهذه المناسبة روابطنا الوثيقة بأرض الإسراء والمعراج، والمسجد الأقصى المبارك، والدفاع عن أهل فلسطين وحقّهم المقدس.