وقفات مع الصدقة

الكاتب : المفتي الدكتور نضال سلطان

أضيف بتاريخ : 28-04-2014


 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على أجود الخلق والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين، وبعد:

لقد جعل الله تعالى من نوافل الطاعات طريقاً لنيل محبته وتأييده، وزيادة في القرب منه، ومن أعظم تلك النوافل: الصدقة، وهذه بعض الوقفات معها أذكر نفسي وأخواني بها سائلاً الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الوقفة الأولى: لن يبقى لابن آدم من ماله إلا ما تصدق به

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مالِي - قَالَ - وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ) رواه مسلم.

فما يأكله ابن آدم يفنى، وما يلبسه يبلى، وما يتصدق به هو فقط ما يبقى.

وهذا المعنى الذي أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، فعن عائشة أم المؤمنين أنهم ذبحوا شَاةً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بقي منها؟، قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها إلا كتفها) رواه الترمذي.

وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، بيدك المال ولسنا نرى في بيتك شيئاً مما تحتاج إليه ويحتاج إليه البيت؟! فقال: (لنا دار نقلنا إليها خير متاعنا، وإنا عن قليل إليها لصائرون).

فلا طريق لتحصيل ثمار المال  بعد الموت إلا بالصدقة، والكيس من عمل لذلك.

  الوقفة الثانية: الصدقة بذور لحسنات، الله يحفظها، وينميها لصاحبها

ولا يقف الأمر عند حفظ الله تعالى لصدقة المتصدق، بل إن من عظيم منّ الله عز وجل وفضله ورحمته، أنه مع حفظه لها فإنه يضاعفها وينمّيها لصاحبها حتى تكون كالجبل، يقول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة/261، ويقول عز وجل: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة/245

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) رواه البخاري، والفلو: المُهر.

الوقفة الثالثة: المتصدق يستفيد من صدقته أكثر من الفقير

فثمار الصدقة التي يقطفها المتصدق كثيرة:

فهي تطفئ الخطيئة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ) رواه الترمذي وأحمد.

وهي تقي صاحبها ميتة السوء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ) رواه الترمذي.

وهي ظل لصاحبها يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ) رواه أحمد.

وفيها شفاء للمرضى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة) رواه البيهقي والطبراني في الأوسط.

وهي تعالج قسوة القلب، لذلك لما شكى رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ) رواه أحمد.

والصدقة تطهر المال مما علق به من آثام، لذلك أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم التجار فقال: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ) رواه أبو داود.

فمن تمعّن في ثمار الصدقة يجد أن ما يجنيه المتصدق من صدقته أكثر وأكبر مما يجنيه الفقير من تلك الصدقة.

فعلى المتصدق أن يعتقد عند إخراج صدقته أنه أحوج إليها من الفقير، يقول الإمام الشعبي: (من لم ير نفسه إلى الصدقة أحوج من الفقير فقد أبطل صدقته).

الوقفة الرابعة: الصدقة تعهد الله تعالى ورسوله بإخلافها

يقول الله عز وجل: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ/39.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ) رواه الترمذي.

فيجب على المؤمن أن يوقن بصدق موعود الله ورسوله.

الوقفة الخامسة: لا تفسد ثمار الصدقة إلا بيد صاحبها

على الرغم من كل فضائل الصدقة وثمارها، إلا أن صاحبها ـ من أخرجها ـ يمكن أن يفسدها بيده واختياره، وذلك بطريقتين:

الأولى: أن يفسدها ابتداءً بالرياء، والثانية: تفسدها لاحقاً بإتباعها بالمن والأذى.

لذلك حذرنا الله تعالى من ذلك، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) البقرة/264

الوقفة السادسة: اجعل صدقتك مميزة

هناك صدقات مميزة، خصّها الله عز وجل بمزيد أجر وثواب:

فصدقة السرّ أفضل من صدقة العلانية.

وصدقة القوة والسلامة أفضل من صدقة الضعف والمرض.

والصدقة على القريب يضاعف أجرها عن الصدقة على الغريب.

والصدقة في رمضان أعظم من الصدقة في غيره.

والصدقة الجارية أجرها أدوم من الصدقة العادية.

فكيف بصدقة تجمع كل المميزات: صدقة سر، جارية، في حال القوة، على قريب، في رمضان، فإن صعب جمع كل تلك المميزات، فبعضها يسهل.

الوقفة السابعة: احذر طلب الصدقة وأنت لست مستحقاً لها

أخطر ما في الصدقة أن يطلبها من لا يستحقها، فقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من يطلب الصدقة وهو لا يستحقها من سوء العاقبة، سواء كان طلبها بالتسول من عامة الناس، أم بطلبها من المال العام الذي تشرف الدولة على توزيعه للمحتاجين، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) رواه مسلم.

فنسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.

الوقفة الثامنة: دينار الفقير أعظم من دينار الغني.

قد يتصدّق الفقير بدرهم أو دينار لا يملك غيره، في حين يتصدّق الغني بدينار من ماله الكثير، ورغم تساوي مقدار الصدقة، فإنَّ دينار الفقير عند الله أعظم، لأنه تصدق بكل ما يملك.

الوقفة الأخيرة: الصدقة ذخيرة للشدائد

أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقصة الثلاثة الذين حبسوا في الغار، ولم يستطيعوا الخروج، فطلبوا من بعضهم أن يستذكر كل واحد منهم عملاً صالحاً فعله خالصاً لوجه الله تعالى، فيسأل الله أن يفرج عنهم به، فتذكر كل واحد منهم عملاً ففرج الله عنهم.

وأي عمل أعظم من صدقة سرّ تطعم بها جائعاً، أو تداوي بها مريضاً، أو تسدّ بها دين غارم، أو تدفع بها شراً عن محتاج.

والحمد لله رب العالمين