فضل الجهاد بمعناه الواسع

الكاتب : مقالات سماحة المفتي العام

أضيف بتاريخ : 19-04-2010


 

(وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)

 سماحة المفتي العام السابق الدكتور نوح علي سلمان

 

الخير كله في الإسلام؛ فهو يتضمن سعادة الدنيا والآخرة، ولقد سعدت أمتنا أيما سعادة يوم كانت متمسكة بالإسلام، جمع شملها فكانت أقوى دولة على وجه الأرض قروناً طويلة، وفتح لها أبواب العلم؛ فعلَّمت الناس كل أنواع العلوم، ونادت بالعدل فسعد الناس بعدالتها، وما زال خطباء الجمعة ينادون كل أسبوع على رؤوس المنابر:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) النحل/90.

عرفت ربها فوضعت الأشياء في مواضعها، وتمحورت كل الأمور حول الحقيقة الكبرى:(لا إله إلا الله، محمد رسول الله). وكم من قصص في تاريخنا وواقع الصالحين من أمتنا نراها اليوم أقرب إلى الخيال، ولكنها واقع في حياة من يرجو الله واليوم الآخر، وغداً -وإن غداً لناظره قريب- يسعد المؤمنون في رحاب الجنة في جوار رب العالمين، والصالحين من عباده، وهذا مصداق قوله تعالى:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) الإسراء/9

ومن محاسن الإسلام أنه لا يرضى للمسلم أن يكون أنانياً فلا يقبل منه أن يعتنق الإسلام ثم ينطوي على نفسه، ويكتفي بسعادته الروحية في الدنيا من خلال العبادة، والذكر، والعمل بالمثل العليا، وما يؤول إليه من سعادة في الآخرة، بل لا بد أن يسعى في نشر الإسلام وتعليمه للآخرين، وترغيبهم في اعتناقه، والجهد الذي يبذل من أجل هذا هو الجهاد في سبيل الله، ولذا قد يكون بالكلمة الطيبة، وقد يكون بالسيرة الحميدة، وكم دخل في الإسلام من أمم وشعوب بسبب الكلمة الطيبة، والقدوة الحسنة، ولذا شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال:(لأن يهدي الله بك رجلاً واحدً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) متفق عليه.

ولكن هذا التسامح والخلق النبيل ومحبة الخير للآخرين غير موجود عند أعداء الإسلام والمسلمين، فهم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله، قال تعالى:(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) النساء/54، فقد آتانا كتاباً لم يتغير؛ لأن الله حفظه:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9، وآتانا شريعة تنظم كل شؤون الحياة على أحسن وجه، وأسكننا الأرض المباركة، وجعل فيها كنوز الأرض التي لا يستغني عنها أحد: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) إبراهيم/34.

ولم يقتصر حسدهم على شعور نفسي بغيض، بل تجاوز إلى عدوان على الدين، والحضارة، والأنفس، قال تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) البقرة/217، وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) المطففين/32، وقال عز وجل -عن أعدائنا-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت/26.

هذه قصتنا مع أعدائنا نريد لهم الخير، ويريدون بنا الشر والأذى، ولا سبيل لحماية أرواحنا وأموالنا وديننا إلا بالقتال، قال الله تعالى:(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) النساء/75، والدفاع عن النفس حق مشروع لا ينكره أحد، وهو يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، بازدياد تعقيد وسائل القتال، فلم تعد المهارة الشخصية في استعمال السلاح الفردي كافية، يأوي الإنسان بعد إتقانها إلى بيته، فقد استجدت أسلحة تحتاج إلى تعاون عدد من المقاتلين على استخدامها بشكل مؤثر، وصار عامل المفاجأة حاسماً في الحروب، وسُخِّرت المكتشفات العلمية في الصراع المسلح؛ فاقتضى كل هذا تدريب أبناء الوطن على استخدام الأسلحة الحديثة لفترات كافية، تكسبهم مهارات بدنية وتقنية تجعلهم يتفوقون في الميدان على عدوهم، واقتضى أن تجهز لهؤلاء الأبطال معسكرات لائقة ليكونوا على مقربة من أسلحتهم إذا اقتضى الأمر.

هذا الذي أقوله ليس سراً، وليس خاصاً ببلد أو أمة؛ فكل الدول تبني جيوشها وتجهزها بما استطاعت من سلاح، حتى الدول المحايدة التي ليس لها مشاكل مع دول الجوار، تعد جيوشها بما يقطع أطماع الآخرين فيها، فإن الظالم يختلق الأسباب ليبرر اعتداءه على الضعفاء، ويسوِّغ استعباده لهم، ونهب ثرواتهم.

لكن الذي أريد أن أبينه أن الله تعالى جعل المجاهدين الطبقة الأولى في المجتمع، فقال تعالى:(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء/95، وما ذلك إلا لأن المجاهد يبذل نفسه من أجل أمته وفي ظل حمايته تنتعش كل الجوانب الحضارية في المجتمع، فلولا المجاهد ما اطمأن عابد في مسجد، ولا تعلم طالب في مدرسته، ولا ربح تاجر في سوقه، ولا عمر مهندس بيتاً أو مصنعاً، ولا سعدت أسرة في دارها، ولا أنشئت صناعة، ولا استقر طفل ولا امرأة.

فللمجاهد فضلٌ على هؤلاء كلهم؛ لأنهم ينفعون أنفسهم، والمجاهد ينفع نفسه ويحمي غيره، فالمجاهدون رمز عزة الأمة وحماة ديارها، وصانعو أمجادها.. لهم تخفق الأعلام، ولهم يحق الفخر، وبهم ترفع الرؤوس، وفيهم يحلو القول شعراً ونثراً، وتنطلق الألسنة بالثناء..

"خطب رجل بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصف ما كان في معركة القادسية، فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أفعال جنودنا أطلقت ألسنتنا".

نعم هكذا كنا، نعرف للمجاهدين قدرهم، وهكذا نبقى إن شاء الله، كما ربانا القرآن، نعظم الجهاد بكل أنواعه، ونحترم المجاهدين.

بقي أن أقول: الجهاد نوعان: قتال، ولا يخفى على أحد، ورباط، وهو انتظار المعركة والاستعداد لها، وعنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) متفق عليه. وذلك لأن الدنيا وما عليها فانية، وكل ما فوق التراب تراب، والرباط يبقى لصاحبه الأجر والذكر الحسن إلى يوم القيامة، ثم إن الرباط يحتاج إلى صبر ونفس طويل؛ فتوقيت المعركة يحتاج إلى حكمة، وحنكة، وتقدير دقيق، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران/200.

وعلينا أن نكون جاهزين بكل أنواع الجاهزية، وأن يكون مثلُنا الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، في صبرهم وصدقهم، وعلى منوالهم نسج الشرفاء من الأمة إلى يومنا هذا، وحسبهم أنهم عند الله خيرة الخيرة، وصفوة الصفوة، وسوف يلبسهم الله ثوب العزة في الدنيا، ويحشرهم مع الأنبياء في الآخرة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فطوبى للمجاهدين بجهادهم وللمرابطين برباطهم، وموعدنا جوار الحبيب المصطفى في الجنة إن شاء الله تعالى.